كلام كبار


 "لا تستبدل شهوة العمل بشهوة الكلام"

قالها الكبير نجيب محفوظ.. للكبير هاني شنودة.. ثم كان لي الحظ أن أسمع منه كواليس هذه الحكاية.

الحكاية ليست سراً.. فقد نشرها في مذكراته و ذكرها في أغلب اللقاءات والحوارات الصحفية التي أجراها.. ولا أدعي أبداً قربي منه.. جمعني به لقاء وحيد على هامش إجراء حوار تلفزيوني في أحد الأماكن التي عملت بها.

في ذلك التوقيت كنت أبحث عن رقم هاتفه للحصول على الإذن لاستخدام مقطوعات موسيقية من ألحانه لفيلم أقوم بإخراجه.. و كانت فرحتي لا توصف حين عرفت أنه ضيف حلقة اليوم معنا.

بعد نهاية الحلقة و نهاية وصلات المجاملات و التحيات و الاحتفاء من الجميع أمام باب القناة و بينما أنا أبحث عن أسلوب لطيف للحديث معه عن موضوع الفيلم.. دخل إلى سيارته و لم يتبقى سواي أنا وأحد الزملاء.. ففوجئت به يخرج رأسه من السيارة و يسأل "هتروحوا إزاي؟ أنا سكتي الهرم"

كان الطبيعي أن نشكر ذوقه و نخرج حتى بوابة اتنين و ناخد أي أتوبيس من برة.. و لكن من الأحمق الذي سيضيع عرض توصيلة من هاني شنودة! 

دخلت إلى السيارة قبل أن ينهي جملته.. ثم دخل زميلي محرجا من تصرفي.

كان حديثنا عاماً.. بدأ مجاملاً مثنياً على تاريخه ثم تطرقنا إلى حديث الساعة وقتها.. لونجا 79.. أو مقطوعة الكاميرا في الملعب كما هي معروفة.. تلك المقطوعة التي عرضت أثناء حصول رامي يوسف على جائزة ال Golden Globe و هي نفسها التي استخدمها في مسلسله RAMY من إنتاج شركة HULU.. كان في قمة سعادته و فخره و هو يتحدث عن رامي و زادت سعادته حين عرف أن زميلي كان من فريق عمل المسلسل.. فطلب منه إبلاغ تحيته إلى رامي و خصنا أنه سيسمي المقطوعة باسم RAMY قبل أن يعلنها في لقاءاته التليفزيونية التالية.

وجدتها فرصة مناسبة للحديث معه عن موضوع الفيلم و سرعان ما تحمس بعد أن حكيت له القصة و المعالجة و تخيلي لاستخدام الموسيقى في تعزيز روح المشاهد.. كان متواضعاً و لم يبخل برقم هاتفه على وعد أن يرى منتجا فنياً يليق بموسيقاه.. و لكن بعد أيام اجتاح "وباء كورونا" العالم و لم يستكمل تصوير الفيلم حتى الآن.

كانت فرحتي غامرة.. ثم ساد الصمت الأجواء.. حاولت كسر هذا الصمت بسؤالي عن واقعته الشهيرة مع نجيب محفوظ.. فحكى لي القصة التي كنت أعرفها و لكن سماعك لهاني شنودة وهو يتحدث عن نجيب محفوظ أمر من الحمق أن يضيعه شاب في مقتبل حياته العملية مثلي.

قالها لي شخص يوما ما.. "اللي تلحقه من العمالقة دول و يجيلك فرصة القعدة معاه مينفعش تضيعها".. و لكن اسمحوا لي هنا أن أستخدم الرواية التي نشرت في مذكراته حتى لا أضيف أو أحذف ما لم يرغب به هو.

يحكي هاني شنودة: «بعد تخرجي من كلية التربية الموسيقية، انضممت لفرقة Les Petits chats ، كنا نعزف خلال فصل الشتاء في فندق "عمر الخيام" الذي أصبح ماريوت الزمالك فيما بعد، أما شهور الصيف فكنا نقضيها في الإسكندرية، نقدم فقرتنا يوميًا في فندق فلسطين».

ذاع صيت الفرقة لدرجة دفعت نجيب محفوظ للسفر إلى الإسكندرية خصيصًا لسماع الفرقة وإجراء حوار صحفي معهم في الأهرام.. دار الحوار بين أخذ وعطاء وسؤال وجواب حتى توقف نجيب محفوظ وسأل هاني شنودة: «ليه يا هاني مبتلعبوش أغاني عربي من تأليفكم؟».

رد شنودة: «الأغنية بتاعتنا مقدمتها تساوي ثلاث أغاني من الأغنية الغربية، أغنياتنا الكلاسيكية تبدأ بتانجو أو فالص ثم تتحول غلى المقسوم الشرقي، والرقص الشرقي عيبة عند الشباب والرجال أم الرقص الغربي فهو موضة».

ويصف هاني شنودة رد فعل نجيب محفوظ قائلًا: «في هذه اللحظة نظر لي بابتسامة ساخرة وقال: لا تستبدل شهوة العمل بشهوة الكلام، أعمل الأغنية اللي انت شايفها صح بدون حجج أو اعذار».

مر على سماعي لهذا الموقف قرابة العامين.. و لا زالت هذه المقولة تطاردني.. «لا تستبدل شهوة العمل بشهوة الكلام».

كثيراً ما اضبطني وأنا أغرق في الحديث و السفسطة و إيجاد أعذار لنفسي تمنعني من البدأ في مشروع انتوي تقديمه.. بل و أتفنن في إيجاد أعذار جديدة كلما انتهى العذر القديم.. أقتداءً بمدرسة الأستاذ محمد فؤاد حين قال "مبعرفش أغني وأنا قلقان على بلدي" فلم يقدم جديداً من وقتها. 

ما أيقنته بعد تأملي للوضع الحالي أن أياً كانت النتيجة من هذه المحاولات التي لم أقدم عليها كانت ستكون أفضل مما أنا عليه الآن.. فلو كنت حاولت لكان هناك احتمال ولو بسيط في النجاح.. ولو كنت أخفقت فكنت سأتعلم.. و لكني الآن أبكي على اللبن المسكوب.. فلا أنا حاولت فنجحت.. ولا أنا فشلت فتعلمت.. 

أضف إلى ذلك أن كل هذه المبررات كانت لخوفي من ردود فعل الناس.. صديقي العزيز.. صدقني.. لا أحد في انتظار ما ستقدمه.. خاصة في بداياتك.. إذا حاولت فقد تكتب لنفسك طريق قد يغير مسار حياتك.. كما حدث مع فريق المصريين الذي أسسه هاني شنودة بعد أن اكتفى بما أضاعه من وقت في الكلام و قرر العمل.. و قد تفشل.. و المضمون أنك إن لم تحاول فالنتيجة الوحيدة أنك لن تصل إلى أي شيء.

أخيراً.. عزيزي.. نفسك هي أكبر عدو و معطل لك.. دورها أن تبقيك في منطقة الأمان.. بعيداً عن الأخطار و لكن أيضاً بعيداً عن أي إنجاز جديد.. فحاول أن تقاومها.. و على رأي المثل.. كله على البر عويم. 



Comments

Popular posts from this blog

أنا خذلتني!

على هامش فيلم Oppenheimer

سبع صنايع والبخت ضايع؟