أمضغ قبل ما تبلع (عن أهمية الفراغ بالنسبة للمبدع)
تقدروا تسمعوا الحلقة من خلال اللينك دة على YouTube
(1) بودكاست كولاج ح5 أمضغ قبل ما تبلع (عن أهمية الفراغ بالنسبة للمبدع) - YouTube
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
صديقي العزيز.. خلينا نفكر مع بعض في سؤال.. أو معضلة.. مين عنده معلومات أكتر.. أنت؟.. ولا نجيب محفوظ و شكسبير؟ الإجابة هي.. إلى حد كبير.. حضرتك يا صديقي العزيز طبعاً مش في المطلق.. و لكن.. بحساب كم المصادر المعرفية و تنوعها بين عصور الشخصيات اللي ذكرناها و بين عصر حضرتك.. فنقدر نقول إنك بتطلع بشكل يومي على عشرات الأضعاف من المصادر المعرفية بالمقارنة بنماذج زي شكسبير و نجيب محفوظ. طيب فين المشكلة؟ المشكلة يا عزيزي تتلخص في طرح سؤال آخر برضه بسيط.. هو مين أكثر إبداعاً وإنتاجية وأصالة في المنتجات؟ الإجابة في تقديري إنه "قطعاً" نجيب محفوظ و شكسبير مبدعين ومنتجين أكتر منك.. و دة سواء بمعيار كم الإبداع أو الثقل الفني أو مدى أصالة العمل. و دة بيطرحلنا سؤال مهم جداً و ضروري.. إزاي؟ أنا المفترض إني أكثر معرفة منهم.. فليه إنتاجي الإبداعي مش بنفس حجم إنتاجهم؟ خلينا نسأل السؤال بشكل تاني.. هل في معيار واضح نقدر نقيس عليه العلاقة بين حجم الإبداع بالنسبة لكمية المعرفة اللي داخلة لمخ المبدع؟ مليون في المية المعرفة مهمة.. و يكون نوع من أنواع الحمق لو قولت غير كدة.. لكن المعرفة مش من المنطقي إننا نتعامل معاها بمنطق الكم و نقيسها على حجم الإنتاج و الإبداع بتاع الشخص.. ملهاش أي علاقة.. أصل كام كيلو معرفة يطلعولنا كام كيلو إبداع؟! دة تهريج. عدم إدراكي للفكرة دي في بداية شغلي "اللي هو من فترة صغيرة جداً" كان بيحطني في ضغط نفسي مستمر.. و اتسببلي في مشكلة نفسية كبيرة جداً.. لا أدعي أني تجاوزتها.. لكني أدركتها و عرفت بوجودها.. و دي أول سبل التعامل معاها. من اللحظة اللي بدأت جوايا الرغبة إني أشتغل في صناعة إبداعية تتيحلي مشاركة أفكاري و رؤيتي مع الناس بدأت أذاكر كويس.. هم الناس اللي حببتني في دة عملوا إيه عشان يكونوا كدة؟ الأساتذة الكبار و الناس اللي لمعت عيني و نورت دماغي لما سمعتهم و هم بيتكلموا أو قرأتلهم كتب حببتني في الشغلانة دي.. إيه وصفتهم؟ لو لخصت كل اللي توصلت ليه من تجاربهم أقدر أقوله في سطر واحد "النهم في المعرفة" أحد الأساتذة قال "خلي راسك طول الوقت على الشاحن" كناية عن كثرة المعرفة و أحدهم برضه قاللك وهو لابس نظارته السميكة و طقيته الشيك "أنا أقرأ يومياً لمدة 16 ساعة" و غيرها كتير و كتير من الجمل اللي كلها كان الهدف منها استعراض كمية المعرفة اليومية اللي بتدخل لعقولهم.. نوع من أنواع فرد العضلات. و قد كان.. حياتي تحولت لحوض ضخم من المعرفة.. تقريباً مش بخرج منه.. لدرجة إني حتى في لحظات نومي بقيت لازم أكون بسمع محاضرة أو برنامج أو Podcast أو أي مصدر معرفي.. و النوم بالنسبالي بقى بيشكل شعور من الإحساس بالذنب الدائم.. بقيت بستحرم أنام! من لحظة ما بفتح عيني على سريري لحد ما بدخل أنام.. يا إما بقرأ كتاب.. يا إما بتفرج على فيلم أو مسلسل.. أو بشوف برنامج أو بسمع Podcast أو بذاكر حاجة جديدة.. حتى و أنا باخد دوش.. بختار محتوى يتناسب مع معدل تركيزي في الدوش و مدة وجودي تحته! طيب الكلام دة مستمر بقاله قد إيه؟ بكلمك تقريبياً في حوالي 10 سنين و لحد النهاردة أنا في الدوامة دي.. رحلة لا تنتهي من تأمل قائمة طويلة من المصادر المعرفية اللي كل ما بحاول أتحصل عليها القائمة دي بتزيد مش بتقل. مثلاً.. أدب نجيب محفوظ كله.. أدب يوسف إدريس.. أدب إحسان عبد القدوس.. كتابات العقاد و طه حسين.. أفلام مارتن سكورسيزي.. مسلسلات آرون سوركين و شوندا رايمز.. أرشيف الإذاعة المصرية.. شغل محمد حسنين هيكل في تجربة حياة.. كل أجزاء Peaky blinders و Game of thrones و House of cards و Narcos.. برنامج غواص في بحر النغم لعمار الشريعي.. سلسلة Podcast Business Wars.. كل دول هم مجرد أمثلة بسيطة جداً من قائمة مرعبة.. طول الوقت دورها إنها تحسسني بالذنب.. و مع كل دقيقة القائمة دي بتزيد. أحمد مراد و عمر طاهر و إبراهيم عيسى نزلوا كتب جديدة.. إيه دة؟ لازم أقرأه. الجزء الجديد من Black Mirror نزل.. إيه دة.. لازم أشوفه تخرج تقابل حد يقولك "إنت إزاي متفرجتش على شغل فليني و كوروساوا و عاوز تكلمني في السينما؟" حاضر هرجع أشوفهم عشان أبقى مثقف! شوفتهم.. فاكر نفسك بقيت مثقف؟ شوفت إنت إيه من سينما عباس كيروستامي عشان تتكلم معايا كدة؟ عباس مين؟ كيروستامي؟ طيب حاضر.. هشوف شغله.. تخلص فرجة على شغله كله وبتحتفي بنفسك و تدخل على شباك التذاكر في سينما زاوية عشان تشوف فيلم في أسبوع أفلامه تلاقي شاب جه وقف جنبك و يبصلك بكل إشفاق و يقولك "أنا كنت مخدوع زيك كدة.. لكن لو مشوفتش شغل أصغر فرهادي بجد متتكلمش عن السينما" "يلاهوي علية و على سنيني السودة!!" ترجع البيت و أنت محبط و تقرر تسمع لقاء لأديب أنت بتحبه عشان تضمد جراح قلبك يقوم هو مكمل عليها و يقول "جيل الشباب اليومين دول هو جيل مستعجل.. الشاب من دول يدخلي و يبقى عاوز يكتب وهو لسة ميعرفش إدجر آلان بو!" "هو لسة في إدجر!" عندي استعداد تام إني أرصدلك الصراع اليومي دة تفصيلة تفصيلة.. حاجة حزن يعني.. و كل ما تعدي علية لحظة أحس فيها بالإنجاز.. بيكون القدر واقف بعيد.. و بيضحك علية.. وهو بيقولي في سره.. موهوم.. متعرفش إن The Crown الجزء الجديد نازل! استمرت معايا الحالة الدائمة من الإحباط و الشعور بعدم الاستحقاق لأني مقرأتش و متفرجتش على كل الحاجات دي.. لحد ما جت اللحظة اللي اكتشفت فيها إني مضحوك عليه.. أحد الشعراء جالي في المنام.. شوفته راكب على جمل.. و ماشي بيتمختر في صحراء شبه الجزيرة العربية.. حالة من الدنجلة الرايقة و التأمل في منحنيات رقبة الجمل.. و لمعان حبات الرمل من ضوء الشمس.. و أنا كل دة راكب وراه وماسك الموبايل و فاتح تطبيق أبجد بقرأ رواية القاهرة الجديدة.. و إذ بيه مرة واحدة يقف و يلفلي براسه و يتحول وشه لوش آلبرت آينشتاين و يقولي "خالد يا ابني.. الخيال أهم من المعرفة.. و الخيال يأتي من الفراغ.. أمضغ قبل ما تبلع" و صحيت.. مكتشفاً إني كل دة كنت بتغفل! صديقي العزيز.. الإبداع بيطلع من منطقة الخيال.. و الخيال بيتغذى من المعرفة.. و لكن الابداع مش بيخرج من منطقة المعرفة.. و عشان المعرفة تغذي الخيال.. لازم تسيب مساحة مخك يتشرب فيها المعرفة دي و يطبخها جوة.. و دة مش هييجي و أنت بتقرأ.. ولا و أنت بتتفرج أو بتسمع.. و لكن صدق أو لا تصدق.. دة بييجي و أنت صامت.. و أنت ساكت.. و أنت ساند راسك على شباك العربية أو الميكروباص و أنت رايح مكتبك و مش قاعد بتسمع حاجة! هل الغذاء مهم لجسمك ولا لأ؟ بالنيابة عنك هرد و أقول مهم. طيب تعالى نفترض إنك في حالة من "الزلط" المستمر الذي لا يتوقف.. طول اليوم عمال تاكل بدون ما تمضغ و بتبلع على طول.. هل جسمك هيستفيد من اللي بياكله؟ أبقى تعالى قابلني. نفس فكرة الرياضي اللي بيتمرن وقبل تمرينة متينة يقرر ياكل وجبة دسمة.. مستحيل يقدر يقدم أي أداء في التمرين.. لازم ياكل.. و بعدين يرتاح.. و بعدين يتمرن.. و بعدين ياكل و بعدين يرتاح.. و هكذا. لو جيت تنقل نفسك في عصر الأستاذ نجيب محفوظ في الستينيات مثلاً.. هتلاقي إن المصادر المعرفية عندك محدودة.. تليفزيون بيفتح لمدة ساعات قليلة و برامجه مش كتيرة.. هم قناة أو قناتين.. و جرايد محدودة.. كل فترة ينزل فيها رواية مسلسلة.. و كتب.. و إذاعة.. محدودة المصادر مهما بدا ليك عكس كدة.. و بالتالي في مساحة مقبولة للفراغ.. للتمشية.. للصمت.. للتأمل.. لكن تعالى دلوقتي.. خدني كمثال.. أنا راجل مشترك في تطبيق للكتب اسمه أبجد.. عليه عشرات الآلاف من الكتب.. و مشترك في شاهد و Netflix و Watch it دة غير اليوتيوب و منصات ال Podcasts زائد المصادر المعرفية اللي كانت موجودة في عصر نجيب محفوظ مضروبة في 100. كل دة فين؟ في جيبي ولامؤاخذة! متخيل حجم الكارثة؟ كلامي مش معناه إنك كمبدع مش مهم تقرأ أو تتفرج أو تسمع.. لكن معناه إنك زي ما لازم تغذي مخك.. لازم برضه تساعد مخك إنه يهضم اللي انت مضغته و طبخته كويسة. كلامي معناه إنك تتصالح إنه عادي ولا ينتقص منك أي حاجة لو حد قالك على كتاب أو فيلم أو مسلسل أو أغنية أو أي مصدر تاني و تطلع متعرفوش.. مش عيب! كلامي معناه إنك تتصالح إنك لحد ما رحلتك في الحياة تنتهي مش هتكون خلصت كل دول. عادي إنك تبدأ كتاب و متخلصوش عادي إنك تبقى مشوفتش Breaking Bad عادي إنك تكون لسة مقرأتش أدب ديستويفسكي مفيش حاجة اسمها قريت كام كتاب مسابقات قاريء العرب و أكتر واحد قرأ كتب لا تعني أي حاجة و بالتالي.. كل يا عزيزي كما تشاء.. و لكن و أنت بتاكل.. أمضغ كويس.. عشان تستفيد باللي بتاكله.
Comments
Post a Comment